رفعت رأسها وقالت بألم :ما جدوى هذا ؟ إنهم يموتون واحدا تلوى الآخر, وكل ما نفعله لا قيمة له ,علينا أن نبقى ساكنين في انتظار الدور, لا شيء يقف في وجه الموت الذي صار يزحف إلينا بقسوة وشراسة.
رد رحيم بقلق: نـ—نـ عم دعينا نـ–نـ نعودوا لبيتنا يا جـ–جميلة .
نظرت إليه بشفقة ,ثم قامت مسرعة نحو والدها الذي كان يرقد في غرفة مجاورة لغرفة ليل ومعه أربعة من المصابين ,كانوا في غيبوبة تامة ومازالت أجساهم تقاوم , وإن انتشرت الندب بسرعة على بعضهم بينما كانت أبطأت عند البعض الآخر.
لم تستطع الجلوس كان الفراش يمتلئ بالدم اقتربت منه وراحت تنظر طويلا كان رحيم يقف بجوارها بينما عاد سعيد لعمله .
في ذات اللحظة بدأت أصوات تسمع في الخارج ,وبدا المكان يعتم وتمتزج روائح الأجساد المتآكلة بروائح غريبة كان اللهب بداخل الخندق لا يزال يرتفع نحو السماء وقد كان الطبيب قد سكب بنزين سيارته في الخنادق المحفورة ورموا بالأخشاب بداخلها .
رفعت بصرها صوب النافذة المتحطمة فبدت المخلوقات تقف خلف الخندق تتقافز وتتصايح يفصل بينها وبينهم أيدي اللهب المتصاعدة في الخندق.
ارتعش جسدها وراحت ترتجف وهي تسحب رحيم أرضا وتهمس : استلقي — استلقي .
في بطن الدار حيث كان سعيد يواصل عمله سمع أصواتا
؛ كان يراهم خلف الخندق يتقافزون, ثم فجأة رحلوا وساد السكون والصمت .
في بيت عبد الرءوف استيقظ النساء الغافيات على زعقات مخلوقات ما وراء الظن , وصرن يضممن أطفالهن إليهن بخوف, وصار الرجال في بطن الدار في حالة ذعر وترقب بينما حملوا في أيديهم معاول وسكاكين وفؤوس يتقدمهم فياض بينما أحكموا إغلاق النوافذ والأبواب وبدت أضواء الشموع تخبوا قليلا .
صارت هذه المخلوقات تقفز وتصيح بصوت مرعب دون أن تستطيع أن تقتحم البيت ,ثم ما لبثت حتى عادت أدراجها وقد عم المكان سكون وصمت رهيب .
فوق التلة حيث بقي الطبيب طوال الليل عاكفا على مختبره محاولا أن يجد التركيبة الدوائية التي يمكن أن تقاوم هذا المرض اللعين الذي صار ينتشر في أجساد الناس بسرعة
وهو يحس بقلق شديد بشأن سعيد الذي ظل مع المرضى .
كان يقف حيث قفص الفأرين المصابين ثم أدخل يده وجر أحدهم , كان الدم ينز منه, حركه فوجده قد نفق , ونظر للآخر فإذا هو كذلك .
أحضر كيس بلاستك ووضعهما به واحكم إغلاقه ورمى به في حاوية النفايات بقربه ,وفجأة رفع بصره نحو بقية الحيوانات المحتجزة وقد بدت ساكنه على غير عادتها .
سار نحو الأقفاص المصفوفة أمامه على الطاولات الخشبية فإذا به يكتشف موت بعضها وسكون بعضها عن الحركة .
سحب ذاك الثعبان الملتف حول نفسه في زاوية أحد الأقفاص ضاغطا رأسه وراح يقلبه ثم رفع حقنة كانت بيده وحقنه بتركيبة دوائية ثم أعاده بهدوء مكانه .
عاد لمقعده , ولكنه صار يسمع أصوات المخلوقات تقترب من بيته ,حمل عصا سميكة , وضعها بقربة ,وراح يلف حولها قماش سميك , ثم أشعل فيه النار, وسار بحذر خارجا من معمله .
——————————————————————————————
نظر حوله ثم تذكر نتائج التحليل , فأحس بغم شديد وراح يفكر طويلا ويحدث نفسه :
ما الذي أصابني ما لي ولها ؟ أليست كباقي المصابين ؟ لم أصابني الكدر وملأ نفسي الحزن لمّا عرفت أنها مصابة؟
بل ما الذي يصيبني كلما وقعت عينايَ عليها ؟ لـِم َ أظل في كآبة حتى أراها؟
ثم شرد ذهنه وراح يحدث نفسه وهو ينهض بتثاقل و يغلق الباب المختبر ويسير إلى غرفته .
سأل نفسه بقلق: أهو الحب ؟
ما هذا الحب الذي أخطأ الزمان والمكان والأشخاص ؟
إن الفروق بيني وبينها شاسعة .
دخل الغرفة و زفر وهو يرمي بنفسه على الأريكة ,ويلقي برأسه على كفيه ليحدث نفسه وهو غارق في تفكير .
هل هو حب يأتي مع الحاجة ؟
أي حاجة لي بها في مثل هذه الظروف ؟ وأنا أعلم أني وإياها مصابان بالمرض .
أي حب ساذج قد يكون حب حاجة ,ولكني لست ساذجا ولا ممن يحبون لذلك ؟إن الحب عندي هو الذي لا يعرف المبررات ولا يأتي ليسد الحاجات ويشبعها فقط.
إذن ما بـي ؟
لقد رأيت نساء كـُثر, جميلات بل رائعات ولم يتحرك قلبي لهن فهل تحرك قلبي لهذا الفتاة البسيطة ؟
ثم همس بلا شعور: لقد ملك قلبي دفؤها ,و دفء مشاعرها وأمر ما ,لا أعرفه وقد عرفه الحب في قلبي فخفق لها .
ثم رمى برأسه على ظهر الأريكة ,و شرد وبعد هنيهة سحب جسده ونهض واغتسل وبدل ثيابه ثم صلى , وسار متوجها للقرية .