بدا وجهها تحت ضوء القمر مسودا شاحبا ,وقد خرجت لتوها من فم الموت .
كان وجهها يتصبب عرقا وجسدها متضعضعا , وبالكاد جمعت جسدها على بعضه, وزحفت به مبتعدة عن المكان قليلا ,ثم جرت الصغير الذي لفظه رحمها للتو , وقد أطلق صرخة قوية تعلن حياته , كان قطعة لحم صغيرة رخوة رطبة , حثت التراب على مكان مخاضها .
أحست بآلام في كل جسدها ,ولكنها كانت تريد أن تسبق ضوء الفجر؛ فالليل قد مضى ثلثاه , ولم يتبقَ منه إلا الثلث الأخير وها قد اقترب أذان الفجر .
نظرت في وجهه المتسخ نظرة حانية وقبلته ثم مسحته ببعض خرق سوداء بالية تشبه أيام الأشهر التسعة الماضية التي عاشتها , ولفته فيها بعد أن فصلته عن حبله السري ودموعها تسيل بصمت على خديها .
. وبإحساس الأم ضمته إليها وألقمته ثديها فأمسك به بصعوبة, ثم سكت عن صياحه ,وراح يرضعه بسكينة ودعة ,وقد بللت دموعها وجهه . وبعد دقائق عدة سرقتها الأمومة من واقعها ؛انتبهت على صوت أذان الفجر الأول .قد جاء من البعيد يرسله لها سكون الليل ليزيد من خوفها وربكتها فراح جسدها المنهك يرتجف فزعا.
نزعت ثديها من فم الطفل الذي كان قد تشبث به تشبثنا بالحياة. وراح يهمهم ويحرك رأسه باحثا عن صدر أمه الذي انتزعته منه بقوة ويفتح فمه الصغير كلما لامس تلك الخرق البالية التي لفته فيها أمه , ولكن بلا جدوى فعاد للصراخ.
احتضنته بقوة حتى كادت أن تزهق روحه ,وهو لا يزال يصرخ كأن وجهه الصغير يتقلص وعيناه تغلقان بشدة على ألم لا يريد أن يراه ويكفيه أن يحسه .
لفت رداءها على رأسها ثم سحبت عباءتها التي ألقت بها قريبا منها ونفضتها من التراب الذي علق بها ثم سريعا ارتدتها وحملت الوليد بين يديها ثم ألقت الغطاء على وجهها, وسارت في وسط الظلام الذي صار يبتلعها في جوفه كلما ابتعدت عن مكانها,
كان يحيط بها سكون يزعجه صراخ الصغير الذي صار يضيع قليلا قليلا في الفضاء . وحين صارت تقترب من المنازل دست في فمه سبابتها فتلقفها يرضعها, وسكت الصياح وساد السكون فيما حولها ؛ فلا يسمع إلا خشخشة نعلها ونشيج بكائها المكتوم.
لم تزل أنوار الحي خافتة فألقت عليها ضوءا باهتا فبدت كشبح يسير مترنحا في الظلام,
. توسلت إلى الله أن لا يراها أحد ,ولكنها أحست حركة هناك بين البيوت أو هكذا خيل لها , ولعل خوفها الذي كان قد طغى على كل شيء أوهمها بوجود من يراقبها ؛ فتراجعت خلفها مسرعة عائدة من حيث أتت
عادت أدراجها لتلك الحفرة التي سترتها فترة مخاضها .
جلست أرضا وضمت الصغير لصدرها وأجهشت بالبكاء ,حينها كان صوت الصغير يشاطرها في تبديد سكون الليل البهيم ولكنه صراخ وصل لعنان السماء وكأنه يسترحم من فيها .
ضمته دست أنفها وفمها بين رأسه وعنقه وأخذت نفسا طويلا, ولكن صراخه أربكها وزادها خوفا, فعادت تلفه في خرقه وتضعه ببطء على الأرض . حاولت أن تقوم فلم تقوَ , ولا زال بصرها حيث وضعت الصغير ولازال صراخه يتعالى
. تأملته طويلا وهي تسبح في حزن قاتم أسود ,وشهقات الألم تمزق صدرها , و دموعها الحرّى تلهب عينيها ووجنتيها ,انتزعت جسدها من جواره مقاومة إحساس الأمومة الذي اجتاحها , تاركة الوليد مكانه .أخذت تجري ——- و تجري كالمجنونة .
ركضت بعيدا وكأنها تتمنى أن تبتلعها الأرض أو تخطفها السماء , وصراخ الصغير في أذنها لا يخبو بل يزيد كلما ابتعدت.
حتى دخلت الحي ثانية .تسللت ببطء نحو الدار حيث تركت الباب مواربا, ودخلت إلى غرفتها وأغلقتها, ورمت بنفسها على فراشها .
في الظهيرة كان الناس يتحدثون عن مولود مزقته السباع غير بعيد عن البلدة, بينما كانت هي على الفراش جثة هامدة ,
وذاك السافل النذل الذي سلبها عفتها بالقوة لا يزال في فراشه يتقلب ويحلم بفعل شنيع آخر .
الجوهرة
أو
سمو المشاعر
12/12/ 1430هـ
((في الظهيرة كان الناس يتحدثون عن مولود مزقته السباع غير بعيد عن البلدة, بينما كانت هي على الفراش جثة هامدة ,
وذاك السافل النذل الذي سلبها عفتها بالقوة لا يزال في فراشه يتقلب ويحلم بفعل شنيع آخر .))
لو كان هذا السطر لم يكتب لكانت القصة أبلغ , لأننا هنا قررنا و أغرقنا بالمباشرية و كأننا نخطب , لكن لو أومأنا .. أو جاء الكلام عن طريق المنولوج الداخلي للبطلة .. لكان أجمل بكثير ..حينا نحتاج لنهاية مفتوحة ..نستجمع فيها خيالنا ثم نطلقه لنكتشف نهايات أخرى ..
هكذا هو الأدب .. أدب التطهير كما قال أرسطو ..
و لو كان القص عن طريق ضمير المتكلم لكنا شهدنا ألما يقرأ ..
:
أستاذتي العزيزة شاكرة لك هذا الجمال الباذخ و اللغة الرصينة المنقاة ..
/
مريم
الأخ العزيز محمد السلولي ,
ووفقك أنت أيضا لك شكري الشديد.
الجوهرة
لكم هو جمييييييييل والله انا اقرأ مثل هذه الكتابات
وفقك الله لما يحب ويرضي ،جزاك الله خيرا واعانك على كتابه ماينفع المجتمع ويرقى به
محمد السلولي
هذه تبعات نزوةالشيطان،ومن لايفكرولايحسب للعواقب.
وطبعاالمجتمع لايغفرهذه الزلات،وخصوصاإذاصدرت من امرأة.
وهذاالوليدالذي يواجه مصيرةالمجهول،ولايعلم أين سيرمي به القدر،هل إلى حياةكريمةوأيدي حانية؟ تنسيه جرحه الذي ولدمعه ويسابقه إلى الحياة،وتنسيه خطيئة والديه،أم إلى حياة شقاءوحرمان،ونظرةمجتمع لايرحم..
،، شـكراأسـتـاذتـي علـى طـرح هـذه الـمقـالـ المـهـمـ،،
بــاركــ الـلـه فـيكـ
المخلصة للغة الضاد ,
كم يسرني مرورك !
لك فائق التقدير.
الجوهرة