15 ديسمبر
2011

اهتم كثيرا بهندامه ,تأمل وجهه في المرآة ,وراح يجر الكوفية على رأسه ,ويصلح من شماغه , ثم تلفت حوله وتنفس الصعداء .لم تكن موجودة دندن بأغنية أحبها وراح يصفر بطريقة إيقاعية .

رش كثيرا من العطر ومسح صدغيه به .
عاد يتأمل نفسه و تنهد عميقا ,وقبل أن يسير نحو باب الغرفة وقفت هي فجأة أمامه .سألت بقلق :

إلى أين ؟
رد بلا اكتراث : لدي دعوة .
دعوة ؟! كثرت الدعوات الموجهة إليك . ممن ؟
التفت ورد بهدوء محاولا أن يكون لبقا منتقيا ألفاظه بدقة : عزيزتي , لا وقت للحديث حين أعود سيكون لديك تقريرا مفصلا .
ردت بشيء من التوتر : ومتى ستعود عزيزي؟  أبعد الفجر ؟
وابتلع غيظه ورد : نامي عزيزتي , لا تنتظريني .
ولم يمهلها لترد خرج سريعا .
في سيارته استرد هدوءه وتنفس بعمق. حرك سيارته بسرعة .
غرق في لجة هواجس جلبت معها الكثير من المشاعر المتناقضة . حاول أن يبعدها عنه فمد يده لجهاز التسجيل وأداره فاجأه صوت نجوى كرم :
الوفاء مثل الشمس لهل الهوى باين
والحب مد وجز بقلوبنا ساكن
أنت حبيبي وأمنتك على روحي
ومن أمنك لا –لا تخون ولو كنت خاين
تمتم بكلمات غير واضحة . و تساءل :
كيف ستكون ؟
اهتز هاتفه النقال بجواره فأغلق جهاز التسجيل وأجابه :
نعم محمد إني قريب منكم .
تأخرت نحن ننتظر .
أحضرت معي خاتما أريد أن ألبسها إياه ولكن—-
وصمت برهة وقال بنبرة مختلجة :
هل تظن أن والدها سيسمح لي برؤيتها الرؤية الشرعية ؟
لا عليك , مابك خائف ومتردد ؟
لست خائفا لا أدري ما أقول إني —
وسكت .
أعرف ما تحسه , لا تقلق ,واترك الأمور تسير كما خطط لها .
تنهد الله يستر .
أغلق الخط وأكمل طريقه شاردا الذهن .
وصل لبيت متواضع في حي متواضع ,ونزل . وجد صديقه ينتظره عند ناصية الشارع, تصافحا, ثم طرقا أحدهما الباب . فتح رجل مسن وبالغ في الترحيب .
دخلا . جلسا متجاورين على أريكة واسعة . وحين استقر على المقعد هم بالحديث .
تلعثم قليلا حين قال :
سمعتكم جابتني و– .
وتنحنح زميله و قال مقاطعا : أبو فيصل صديق قديم ويريد ابنتك زوجة له .
أبوفيصل ؟
وتنحنح أبو فيصل وقال : أنا متزوج ولي ابن أكبر هو فيصل .
رد الرجل المسن : ولم تتزوج بثانية ؟
وصدمه السؤال , فهذا السؤال الوحيد الذي لم يحضر له . حضر لكل سؤال إجابة إلا هذا السؤال .ألم يكن يعرف أنه أكثر الأسئلة منطقية في مثل هذا الموقف ؟
فكر بسرعة وقال بلا روية : زوجتي مريضة .
ونظر إلى صديقه الذي بادله النظرة ذاتها مكتشفا الكذبة ولكنه سريعا ما أدرك خطأ تبادل النظرات بين الكاذبين فابتسم متظاهرا بالسكينة وقال :
أقصد أنها كانت مريضة ولكنها أفضل الآن .
وأحس انه سيدخل في ثرثرة فارغة وعينا الرجل المسن تخترقه وتقتحم عينيه القلقتين فعاد يصلح من من غترته ويبتسم تلك الابتسامة الفارغة ويتابع : المرض أبقاها غير قادرة على خدمتي وإن كانت أفضل الآن .
لا بأس قد أصلح ما كاد أن يفسد رد الشيخ :
حسنا , كم لديك من أبناء .
فيصل وفارس و—
وقبل أن يكمل قاطعه صديقه : ثلاثة أبناء وابنة ؛ أكبرهم في الحادية عشرة ,وأصغرهم ابن السنة .
ولم تمر على الرجل ذي التجربة هذه المعلومة دون أن يربطها بسواها فقال :إذن زوجتك ما شاء الله تنجب وبخير .
تنحنح وتلعثم قليلا ثم قال : بعد ولادة أصغر أبنائها مرضت .
قد تعود أن يخلص نفسه من مثل هذه الزلات .
ابتسم الشيخ ابتسامة محيرة المغزى ثم سأل : وما عملك ؟
هدأ الآن وبدأ يحس أن الحوار صار أقل خطورة فقال :
موظف في وزارة الداخلية .
الداخلية !
وراح الرجل يفكر وفجأة سأل : أي قسم ؟
أحس بالقلق من جديد فقال : قسم الجوازات .
الجوازات ! أتعرف خالد الكاشف ؟
الكاشف , وفكر كاشف. ماذا يريد هذا الرجل المسن من هذا السؤال؟
رد :لا يا عمي .
أومأ برأسه الشيخ ثم أخرج وهو يرجع جسده النحيل على المقعد علبة تبغ وقال : تفضل —
نظر إليه بلوم وقال باستنكار : أنا لا أدخن !
ضحك الشيخ خارجا من تحفظه وقال : هيا يا رجل ,خذها . إني لا أختبرك .
نظر إلى صديقه ووجده مطرقا يخفي ضحكة مكتومة فقال : قد قلت الصدق ؛ أنا لا أدخن .
رد الشيخ : كيف ؟وهاتان الشفتان المزرقتان .
تبادلا النظرات وراح يفكر كيف ينجو فقال :
كنت , ولكني تركته .
وسأل متفحصا وجهه : والبلوت ؟
قال ببلاهة : هاه—
قلت والبلوت , تلعبها .
لا —
صحيح ؟
نعم .
وراح ينظر لصديقه الذي لازال على إطراقه فلكزه بمرفقه فرفع رأسه ونظر إليه فقال الشيخ وهو يرفع حاجبية مستنكرا :
لا بلوت ولا دخان !
نعم .
حسنا— حسنا .
كم راتبك ؟
ثمانية آلاف .
حملق به برهة وعاد يسأل : والبيت حلال .
نعم قد ورثته عن أبي .
وأمك ؟
أمي تسكن مع أخي الأكبر .
ركز نظره عليه وراح يلاحق حركاته وإيماءات يديه ثم قال :
لا بأس ابنتي ليست موظفة .
نعم أعلم , ذلك أفضل .
وهي ليست صغيرة كما تظن .
وفكر ؛ ليست صغيرة , كم يمكن أن يكون عمرها ؟ ولم يطل تفكيره إذ تابع الشيخ :
قد تجاوزت الثلاثين بقليل .
ثلاثين ونظر إلى صديقه الذي قال :
هل تسمح له أن يراها الرؤية الشرعية ؟
ضحك الشيخ ثم قال: لم أوافق عليه بعد .
أحس بفيض من الخيبة تلاشت سريعا حين قال :ولكن أنا عن نفسي لا مانع لدي . ولكن
دعني أسألها إن كانت توافق عليه .
وخرج الشيخ .انتظر خروجه فقال باندفاع :
تجاوزت الثلاثين إنها كبيرة .
تبا لك , وكم عمرك أنت ؟
لن أبدل زوجتي بأخرى لا تصغرها بكثير .
دخل الشيخ فسكتا.
ليس لديها مانع , هيا أخرج أنت إلى الخارج لتدخل .
قال ذلك الشيخ وهو لا يزال واقفا عند الباب .
خرج صديقه للخارج وظل مكانه جاثما على مقعده يجثم عليه قلق ولهفة دخلت :
لاحت له من عند الباب فرمى ببصره نحوها وتأملها جيدا .

  دخلت :
مساء الخير .
رفع بصره وتأملها جيدا .
أشار والدها أن تقدم العصير وتخرج .
سارت خطوات نحوه وهو لا يزال ينظر إليها: إنها سمراء عادية جدا تبدو أكبر مما ذكره والدها ,وذوقها في الثياب جدا رديء .زوجتي أجمل منها إنها ضخمة لم يقولوا أنها ضخمة قالوا أنها طويلة .
ناولته كوب العصير فنظر إليها عن كثب ؛ عيناها صغيرتان توحي بالقلق فمها كبير نوعا ما توجد شامة سوداء عند طرف خدها الأيمن .
تشوهها هذه الشامة كثيرا . قالت بصوت خفيض : مساء الخير .
يا لهذا الصوت الكئيب .هكذا قال في سريرته وهو يتناول كأس العصير ورمى ببصره أرضا وخرجت دون أن تقول شيئا, ولكنه تأملها جديا ودقق النظر في تفاصيل جسدها ووجهها بل حتى يدها التي ناولته كوب العصير .
أظافر متشققة ويدان جافتان .
عاد زميله بعد خروجها ظلا صامتين والشيخ اكتفى بالنظر إليهما من وقت لآخر ثم قال قاطعا لحظة الصمت المريبة تلك :
قد رأيتها فلتعرف أنا لا نشترط مهرا ولكن لابد أن توفر لها بيتا مستقلا بعيدا عن زوجتك الثانية كما لابد أن تكون مستعدا لأن تنفق عليها وتوفر لها كل ما تحتاجه ولابد أن يكون لها مصروفا شهريا و لابد أن —.
وهمس بعد وجوم مقاطعا : حسنا يا عم سيكون بيننا اتصال .
ووضع كوب عصيره الذي لم يشربه على الطاولة أمامه وسار خارجا وخلفه زميله ومخلفا خلفه ما لاح على وجه الشيخ من تعبيرات مبهمة لم يفهم لها تفسيرا .
عندما عاد لبيته وجد زوجته تنتظره كان يحمل علبة مخملية حمراء صغيرة قال بصوت أراده أن يكون مغموسا بالشوق والحب :
مساء الجمال يا حبيبتي .
نظرت حولها وابتسمت فقال :
تنتظرينني أيتها العزيزة .
عادت تبتسم أكثر وتحولت ابتسامتها إلى ضحكة متغنجة فقال :
أجمل مساء وأجمل زوجة أنت .
قالت : ما الذي يجري؟ جئت على غير موعدك وتتحدث إلي بحديث لم أعد أسمعه منك منذ سنوات ؟ فما الحكاية ؟
لا حكاية ولا رواية عزيزتي إني مجنونك ,ولا أحد غيرك يستحق هذا الحديث .
قالت ولا زالت لكلماته قوة تأسر قلبها وتسلب فكرها : ما بك يارجل ؟خرجت بوجه وعدت بوجه ؟
رد وهو يطوقها بذراعيه : إني أحبك ؟
ضحكت من قلبها وانتعشت في داخلها أحاسيس كادت أن تموت ,قالت بسعادة غامرة : وأنا كذلك أحبك فمن لي غيرك ؟
ونظرت إلى العلبة المخملية الحمراء في يده وقالت :
ما هذا ؟
قال :خاتم أحضرته لك لأخطبك لنفسي من جديد .
حلقت بها كلماته إلى سابع سماء وهو يلبسها الخاتم .
وفجأة صرخت في وجهه بأسى ممزوج بغضب :
إنه كبير جدا على إصبعي , قل لي لمن كان هذا الخاتم ؟
لم يجد إجابة سوى مزيدا من أقاويل الحب الفارغة التي كثيرا ما يتلاعب بها الرجال على عقول النساء الفارغات ليخدر عقلها إلى حين استيقاظ نزوة جديدة في قلبه فيعود يبحث عن غيرها وتعود هي تغرق في كآبة وحزن .
في الصباح استقبله صديقة بضحكة مجلجلة ساخرة قائلا : أأعجبتك الفتاة ؟
صرخ مشمئزا : تبا لقد وصفتم شيئا ورأيت شيئا آخر .
وازداد ضحكة حتى لم يستطع أن يتابع الحديث وظل صاحبنا فاغرا فمه ثم سأل بامتعاض : ما الذي يضحكك ؟
لقد غشك الشيخ , أتدري من رأيت إنه عرض عليك الخامة ؟
وحملق مشدوها وتمتم : لا – لا .
بلى إنها الخادمة هذا ما أسرت به أمها لأمي بعد خروجك .
وصاح شاتما الشيخ بكل ما يعرف من ألفاظ الشتم , فتابع صديقه بعد أن سيطر على ضحكته : والمفاجأة الثانية — .
قاطعه : تبا لك , إنه خطئي فلم اعتمدت عليك ؟ ألم تقل أنهم جيراننا وأن أمك تثني عليهم وعلى ابنتهم ؟ أتتآمر ضدي ؟
وضحك بملء قلبه قائلا : والله لا , إنه والدها وأمها من دبرا هذه الفعلة .
إن أمها تربطها بزوجتك صلة قرابة من ناحية الأم وتعرف زوجتك جيدا .
تمتم بغيظ : تبا—- تبا .
أحس بغيظ شديد وانتفخت أوداجه و أحمر وجهه حين قال بغضب : لن أسامحك على فعلتك تلك .
قال متغلبا على ضحكه : والله لم أدبر شيئا ولم أعرف بهذا إلا بعد خروجنا بساعات ,ما بك يا رجل ؟

لا تغضب مني أنا مستعد أن أبحث لك عن خاطبة وأزوجك بأجمل منها .
أجمل من الخادمة ؟ تبا لك ,هيا دعني وشأني .
وحين عاد للبيت لم يستطع أن ينظر إلى عيني زوجته كان سؤال وأحد يركل فكره بقوة : هل اشتركت معهم في هذه اللعبة السخيفة ؟
ورفع بصره نحوها فقالت : لا .
حملق بها فتابعت : لا تشغل رأسك بما حدث بالأمس فإني قد نسيت أمر الخاتم كل ما أريده هو أنت وأنت فقط .
ابتسم بتكلف .
الجوهرة


8 /1 /1433

twitter facebook digg delicious linkedin technorati stumbleupon

الرد

6 تعليقات على “هي وهو 3”

  1. يقول وضحى الرسام:

    لو اتفقن كل النساء على ذلك .. لما كانت هناك زوجة ثانيه 🙂
    القصة جميلة جدا ،

    • يقول الجوهرة عبدالله السلولي:

      ما أسعدني بك يا وضحى ,
      صدقت هذا ما أريد أن أقوله .
      الزواج الثاني بلا مبرر إلا نزوات سخيفة لايستحق إلا الإزدراء .
      خالص محبتي يا طاهرة القلب

  2. يقول سناء:

    القصه رائعه جدا سلمت يداك أستاذتي

  3. يقول المخلصة للغة الضاد:

    يقال:مابني على باطل فمصيره إلى باطل ، بعض الأشخاص يبدأحياته بأكذوبة ، ويتصورأنه بكذبه وخداعه سوف يحصل على مايريد ، ولايعلم أنه يكذب على نفسه قبل أن يكذب على الآخرين ، للأسف هذاواقع بعض الناس ، يبني سعادته على سعادة غيره بالغش والحداع ..
    قصة جدا رائعة ، صورت لنا واقعا معايشا في الحياة ، أبدعت أستاذتي في تصوريرأحداثها ، إلاأن ثمة ملاحظة صغيرة وردت في سيرالقصة وهي: ذكراسم المغنية ، وفي رأيي المتواضع كان بالإمكان إلا يذكراسم المغنية .. حقاالفصة استمتعت كثيرا بقراءتها ، ونترقب بلهفة ماتبقى من القصة .
    لك مني خالص الاحترام ، وعاطرالوفاء .

    • يقول الجوهرة عبدالله السلولي:

      أهلا بك عزيزتي المخلصة ,
      أشكر لك مرورك العطر . وملاحظتك قد يكون لها جانب مقبول ولكن جاء ذكر المغنية ليكون من ضمن تصوير واقع عزيزتي .
      خالص الشكر لك
      الجوهرة



4٬400
HTML CSS