كان عبد الرحمن أو الدحمي كما كنا نسميه صديق طفولتي ,كانت السعادة تستغرقني حين أكون معه نلعب في الحارة أو في البيت .
عرفت الحياة من خلاله وحين نلهو سويا أنسى الزمان والمكان ,كان يكبرني بسنتين أو أقل ,
ولكني ألتقي معه في أشياء كثيرة ولذا ندر أن تختلف أو نتشاجر .
كنت أذهب حين أستيقظ إلى بيتهم المقابل لبيتنا فأجده يجلس على إفطاره مع عائلته فتناديني أمه لأشاركه طعامه
فيفسح لي بسعادة ويقرب لي إناء الطعام والرغيف ,
وفي مرات كان يأتي هو إلى فتدعوه أمي ليشاركني إفطاري فافرح بمقدمه كثيرا , ثم نأكل الطعام في عجل ونخرج للشارع لنلعب .
هناك يكون الشارع يمتلئ بأبناء الحارة صغارا في أعمار متفاوتة ؛ إناثا وذكورا ,
ولكن كنت أنا وهو لنا شأن آخر غير شأنهم ؛ ننزوي بعيدا لنلعب سويا وقد نظل نراقب الطيور في السماء ثم الأشكال التي تتخذها السحب عند حركتها أو يدعوني لنصعد إلى سطح دارهم لندخل ما نسميه{ عشة } الحمام ونراقبه فيسترسل هو في سعادة يتحدث عن أنواعها فهذا المسرول ,وذاك الرقاص, ويريني أفراخها وبيضها ويطلب مني أطعامها الدخن الذي وضعه أخوه في كيس بالقرب ونسكب لها الماء ,
ونجلس قريبا ننظر إليها وهي تشرب وتأكل وصوت هديلها يملأ سمعنا .
لا يخلو يومي من عبد الرحمن أبدا فلا أتركه ولا يتركني حتى تغيب الشمس فينصرف كل واحد منا إلى بيته .
وحين سبقني عبد الرحمن للمدرسة كنت أنتظر عودته فتطلب مني أمي أن لا أذهب إليه فهو متعب ويريد أن يستذكر دروسه فإذا به يأتي هو إليّ .
حتى جاء ذاك اليوم حين تركني قبيل المغرب بعد أن فرغت وإياه من صنع عربة من الكارتون وعجلاتها من علب الصلصة جمعتها وإياه من الشارع وربطناها إلى علبة الكارتون بحبل ثم ثبتنا في المنتصف حبلا طويلا لنسحب العربة به حينها كنت أشعر بنشوة الانتصار وفرحة الابتكار في عينيه قال : خبئها عندك وغدا نكملها .
قلت له بأسف : لنكملها الآن .
قال : لا سأدخل البيت فغدا لدينا مدرسة ولم أكتب الواجب .
أخذتها واستدار هو عائدا لبيتهم وأنا إلى بيتنا , بعدها لم أره ؛ لم أر عبد الرحمن!
ففي ظهر اليوم التالي وعند عودة التلاميذ لبيوتهم تركت فراشي وأسرعت للخارج حيث أظنه سيأتي من المدرسة وأكمل معه صنع العربة, لم تكن الحارة تعيش لحظات عادية ,لم يكن هناك شيء طبيعي .
كانت الحارة بكاملها في حالة هلع؛ باب منزل عبد الرحمن مفتوح على مصراعيه وصخب وصياح, وحين رأني أبناء الحارة هرولوا نحوي يصيحون:
مات عبد الرحمن — مات عبد الرحمن .
لم أفهم حينها ما معنى مات, ولكني بقيت واقفا ببلاهة أنظر لذاك الباب المفتوح , حينها رأيت والده ووالدي وبقية رجال الحارة يحملون
ما يشبه السرير كان فوقه شيئ مسجى ومغطى برداء سميك حينها صاح أبناء الحارة هاهو ها هو عبد الرحمن !
وقفت ونظرت بعينين تمتلئان بالدموع ؛ لم هو محمول على هذا الشيء ؟ لم يسجى؟ لم يحمل ؟ إلى أين يأخذونه ؟
كانت أول صدمة تلقيتها ولم أزل بعد غضا لا أعرف معنى الموت .
لم أستطع أن أقف هكذا هزني الموقف الذي كبر على فهمي أن يستوعبه وعلى قلبي أن يحتمله و أن يتقبله , فأسرعت لأبي وتشبثت بثوبه وجررته بقوة وقلت :
أين عبد الرحمن ؟
همس أخي الأكبر الذي كان يقف إلى جوار أبي : اذهب يا هيثم إلى البيت .
لم أفهم فصحت : أين عبد الرحمن ؟
همس أحدهم وهو يبعدني برفق عن طريقهم : مات .
كان أبي وأبوه يخفيان دموعهما وهما يحملانه ويلفان غترتيهما حول رأسيهما
لم أر أبي على هذه الهيئة من قبل ولا حتى والد عبد الرحمن . ساروا وبقيت واقفا مكاني والصبية يلحقون بهم.
غص الكلام في حلقي :
إلى أين ؟
إلى أين يا عبد الرحمن ؟
سمعت أحد الأولاد يقول لمن حوله سيدفنونه في حفرة .
كبرت دموعي حتى حجبتهم فلم أعد أرى .
هرولت حيث أمي فلم أجدها وجدت أختي الكبرى أمام ماكينة الخياطة التي كان لها هدير يشبه الحزن الهادر في داخلي قلت لها :
إلى أين يأخذونه ؟
رفعت رأسها ونظرت بحزن وقد عرفت ما أعني ولكنها صمتت و لم تجب فأعدت:
أين يأخذون الدحمي ؟
ردت بأسى : لقد ذهب لله .
اقتربت منها وقلت : لا, يقولون للمقبرة .
ردت : هناك يرحل لله .
قلت :كيف وهم يضعونه في حفرة ويحثون عليه التراب ؟
ردت : كلنا سنرحل يوما .
لم يا أختي لم نموت ونرحل لله ؟
ابتسمت بأسى وقالت : لأننا منه وإليه .
لم أفهم ولكني أحسست أن هذا المسمى موت شيئا بشعا.
ومذ ذاك اليوم وأنا أره في كل مكان .
كيف رحل عبد الرحمن بهذه السرعة لقد وعدني أن يكمل معي العربة وذهب صباحا للمدرسة وأعادوه منها ميتا , فكيف ؟ ولم ؟
انزويت في زاوية من الدار ومعي العربة التي لم تكتمل أضمها إليّ كأنما أضم صديقي الحبيب الذي رحل فجأة دون وداع .
رأيته مرات في المنام ولكنه كان يأتي و سريعا ما يختفي خلف ضباب .
قال لي مرة جملة واحدة لا أنساها : أكمل العربة يا هيثم .
قلت : وحدي لا أستطيع .
لم يقل شيئا ابتسم ثم اضمحل .
سكنتني بعده الوحدة ,وطال صمتي ولم يتنبه لي أحد , دفنوه ونسوه , الكل كان مشغولا في البحث عن الحياة لا بل الموت , وكأن الإنسان وهو يدأب في الحياة يسعى بلا وعي نحو الموت .
للقصة إن شاء الله بقية
الجوهرة
الرد
عزيزتى الكاتبة الجميلة الجوهرة عبدالله السلولي
بكل الحب والفخر ببنات جنسي احيي قلمك الرائع
القلم الأنثوي الذي أتباهي به الآن وأقول لكل البشر أن المرأة العربية تمتلك الموهبة التى تجعلها علي قمة الابداع
لقد قرأت لك ” مأساة شلفة” و ” الدروب ” واستمتعت كثيرا بالقراءة لقلمك المبدع.. وكنت طوال الوقت أري الشخصيات أمامي متجسده .. فقد أبدع قلمك في تجسيد الشخصيات بشكل يجعلنى أقول: هنا كاتبة ومبدعة رائعة
اتمنى لكِ يا ختى العزيزة كل توفيق.. ولتعلمي أننى مبهورة بقلمك الذي رسم لي شخصيتك أيضا .. وجعلنى أحبك من خلال كتاباتك واعتز بمعرفتك واتمنى أن يأتى اليوم الذي القاك فيه شخصياً
من كل قلبي كل تقدير
تحياتى
أهلا بك أستاذتي الغالية نبيلة .
سعيدة والله بعبق هذا المرور الرائع
لا حرمت منك أستاذتي
خالص ودي
الجوهرة
أستاذتي العزيزة ،
القصة تحمل بين طياتها معاني إنسانية جميلة ، هذه المعاني تتجلى في صداقة الطفولة من براءة وصدق ، فأروع صداقة تضل محفورة في ذاكرة الإنسان صداقة الطفولة التي تتمثل في مواقفها العفوية الصادقة ، ربما أكثر من تشتاق إليه وتحن له هوصديق الطفولة ، وربما تحتفظ ببعض ذكرياته الملموسة في متحف ذكرياتك المتواضع ، وقد تعبر بحنينك له ببيت من الشعر ، أوبعبارة شوق للقاءه ..
أستاذتي ،
أبدعت كما عهدناك دائما في كتابة القصة .. الفقد من روائعك التي دائما ماتتحفينا بها ، حقا استمتعت بقراءتها وكأني أعيش واقعها ، وأبحرت مع شخوصها وأحداثها المؤثرة .. وللإبداع بقية .
بارك الله فيك ، وماتخطه أناملك من إبداعات .
تحياتي العاطرة الماطرة
اهلا بك عزيزتي المخلصة
نعم عزيزتي قد تختفي كل الصور إلا صور الطفولة تبقى تتارقص امامنا كل حين وتستثير فينا كثير من الذكرى والحنين .
شاكرة لك تواصلك معي
مودتي
الجوهرة
ما أروعك
الروعة مرورك أنت أستاذي
شكرا لك
الجوهرة