كان الجدب يقتل كل شيء وكانت السماء تضن بقطرة الماء
الأرض صارت يباب ,فقدت نضرتها وتشقق وجهها وتسلخ جلدها
وفاضت حشرات تدب فوقها باحثة عن قطرة ماء .
أصوات البوم والغربان صارت تنعق في جوف السماء وكأنها تستغيث
تناثرت جثث الحيوانات النافقة هنا وهناك وصارت تتعفن وتنشر رائحة الموت .
لا قطرة ماء
لهيب الشمس يحرق كل شيء ويبتلع ما احتفظت به الأرض من ماء
جفاف وموت
لا قطرة ماء
صمت ورهبة وكآبة تلف الأرض كلها لا شيء يبعث على الأمل
هناك كانت المخلوقات البشرية تجمع ماتبقى منها لتخرج لفضاء الأرض تبحث عن قطرة ماء .
ولا قطرة ماء
صراخ الصغار وصمت الكبار الذين حملوا جثثا لا زالت بعض الحياة فيها ,
بدت وكأن الموت يزحف إليهم وهم عبثا يفرون منه .
أجسادهم باتت أشباحا ,تغورت الأعين بداخل الجماجم الكبيرة وصارت ترى الحياة من خلف الموت ؛إنها المجاعة تجتاح الأرض .
كانت جماعات البشرية كأنها قطعان تسير بذهول نحو المجهول بلا هاد.
يتوقف بعضها حتى يلقى بحمله من الجثث إذ ما فقدت أخر نفس من الحياة ,ثم تواصل بصمت .
اتسعت دائرة الموت ؛وصار الناس يسيرون ضاربين في الأرض بلا دليل ,
وحين بلغوا قلب المأساة كان زعيمهم قد فقد القدرة على التفكير والتدبير, ولم يعد قادرا أن يحمل ثقل جسده ,فرمى بنفسه أرضا ,ولم يكن الناس السائرون خلفه يعون شيئا , ولكن الركب توقف وصاح بهم ابن الزعيم بصوت واهن ووجه سفعته الشمس, وغير الجوع سحنته , بصعوبة رفع صوته :
لنتوقف هنا .
توقف السائرون ,ووضعوا أحمالهم من الأجساد شبه الميتة ,ووضعت النساء أطفالها أرضا واستلقين بالجوار وقد أنهكهن السفر والجوع والظمأ
رفع الزعيم المنهك رأسه للسماء وتمتم : يا الله ,قطرة ماء.
ولكن الشمس كانت تلتهب ؛ فارتد له بصره حسيرا كسرته تصميم أشعة الشمس على أن تبقى في كبد السماء قوية لاهبة.
أقترب ابنه منه وقال بأسى : ما العمل يا أبي؟
هز الشيخ الكبير رأسه ولم يعقب .
عاد الابن لشيوخ الجماعة الهاربة من المجاعة وقال :
ما رأيكم ماذا علينا أن نفعل ؟
رفعوا رؤوسهم نحوه و ألقوا بأجسادهم المنهكة الضعيفة أرضا وهمس أحدهم : دعنا نسترح هنا الآن .
عاد لأبيه الذي كان يبتعد عنهم خطوات عدة وقال : يريدون البقاء للراحة
صمت الأب الشيخ وراح في شرود يفكر ثم همس : بني .
كان الفتى قويا فقد أبقى شبابه في جسده بقايا قوة و ظهر هذا بوضوح عليه رغم العناء والإرهاق الذي عاناه.
اقترب من أبيه بهيبة واحترام شديد, فقال الأب :
أعرف دربا يوصل إلى ينابيع ماء خلف هذا لجبل .
ثم أشار أمامه .
نظر الفتى حيث أشار والده , أفتر ثغره عن ابتسامة استغراب وقال :
أي جبل يا أبي , لا يوجد أمامك جبل ,إنها أرض مستوية ممتدة .
أرخى الشيخ بصره الواهن أرضا ,وراح في شرود ثم همس مرة ثانية :
بني .
لم يكن الفتى قد حاد ببصره عن أبيه ,فتابع الأب : أنا متأكد أن أمامنا جبل .
هز الفتى رأسه وسار حيث الشيوخ ثم قال : أتعرفون جبلا قريبا من هنا؟
نظر بعضهم لبعض ثم همس أحدهم بصوت واهن : قد يكون جبل العابد .
ردد :جبل العابد — جبل العابد .
سمعوا بهذا الاسم وتمتموا به .بدا عليهم شيء من النشوة التي ما لبثت أن تلاشت مع وهن أجسادهم ونحولها.
لم يكن صراخ الأطفال في تلك البقعة التي وقفوا عندها من الأرض يتوقف
ولم تكن تمتمات الفاقدين لموتاهم تسمع ؛وإن هي إلا حسرات تعودوها منذ أن حل الجفاف وعمت المجاعة .
ألقى الفتى ببصره حيث النساء والأطفال, ثم رمى ببصره حيث والده , ثم عاد فقال : جبل العابد — جبل العابـ — , ما يكون هذا ؟
هز الشيخ رأسه ثم قال : قد يكون لنا أمل إن كان جبل العابد قريبا من هنا .
وكيف نعرف هذا يا عم ؟
هكذا قال الفتى وهو يلقي ببصره حيث الأرض الممتدة أمامه و رفع كفه فوق عينيه عله يستبين الفضاء الواسع حوله .
رد أحد الأشياخ : قل لي يا بني , هل ترى تلالا قريبة ؟
تلال — تلال
هكذا قال الفتى وهو يرسل بصره في كل الاتجاهات .
ثم هتف : نعم يا عمي , هناك —هناك .
ما لون تربتها
قد— قد تكون صفراء يشوبها حمرة
أهي مرتفعة .
قليلا .
الجبل خلفها تماما .
ثم قال آخر: نعم , كنا شبابا نأتي ونصطاد خلف التلال ,ونشرب من مياه الينابيع هنا ونستحم ونلعب .
وقال آخر : نعم والله ,هيا يابني فاستشر الزعيم ماذا عليك أن تفعل .
عاد الفتى لوالده الذي كان قد بدا أشد وهنا و قال :
يقولون أنه خلف التلال جبل العابد .
لم يجب الشيخ, ولكنه أشار بيده إلى حيث كان قد أشار قبلا , ثم همس بصعوبة :
سر بنا إلى هناك .
رفع الشاب صوته : الركب يسير.
عادوا لحمل قليل أمتعتهم ,وبعض أحمالهم من المرضى وساروا تباعا خلف زعيمهم المنهك .
ساروا صامتين , انتعشت آمالهم وإن ثقلت خطاهم ؛كانت أقدامهم ترسم آثار معاناتهم شاحبة على الرمال ,ولا زالت الشمس تحرق روؤسهم وتمتص رطوبة أجسادهم .
للرحلة بقية
الرد